فصل: تفسير الآية رقم (80):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (80):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ} [80].
{وَلُوطاً} منصوب بفعل مضمر معطوف على ما سبق، أي: وأرسلنا لوطاً. ولفظه أعجمي معناه في العربية ملفوف أو مُرّ، كما في تأويل أسماء التوراة والإنجيل- وهو فيما قاله علماء النسب والتفسير- ابن هاران بن تارح، ويقال آزر، وهو ابن أخ إبراهيم الخليل عليهما السلام. وكان قد آمن مع إبراهيم عليهما السلام، وهاجر معه إلى الشام وتوطنا بلد الكنعانيين من فلسطين، وهي الأرض المقدسة، ثم حدثت مشاجرة بين رعاتهما فنزح لوط إلى وادي الأردن، وسكن مدينة سدوم فبعثه الله إلى أهلها، وإلى ما جاورها من القرى. فصار يدعوهم إلى الله تعالى، يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عما كانوا يرتكبونه من المآثم والفواحش التي اخترعوها، ولم يسبقهم بها أحد من العالمين، من بني آدم، لا غيرهم، وهو إتيان الذكور.
قال ابن كثير: وهذا شيء لم يكن بنو آدم تعهده ولا تألفه، ولا يخطر ببالهم، حتى صنعه أهل سدوم، عليهم لعائن الله.
قال عَمْرو بن دينار: ما زنا ذكر على ذكر، حتى كان قوم لوط.
وقال الوليد بن عبد الملك الخليفة الأموي، باني جامع دمشق: لولا أن الله عز وجل قص علينا خبر قوم لوط، ما ظنت أن ذكراً يعلو ذكراً.
ثم بين تعالى إنكار لوط عليهم بقوله سبحانه: {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} أي: الفعلة المتناهية في القبح. وقوله تعالى: {مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ} أي: ما علمها أحد قبلكم، الباء للتعدية، من قولك سبقته بالكرة، إذا ضربتها قبله، منه قوله صلى الله عليه وسلم: «سبقك بها عُكاشة». كذا في الكشاف.
قال أبو السعود: والجملة مستأنفة مسوقة لتأكيد النكير، وتشديد التوبيخ والتقريع، فإن مباشرة القبح قبيح، واختراعه أقبح، فأنكر تعالى عليهم أولاً إتيان الفاحشة، ثم وبخهم بأنهم أول من عملها، ثم استأنف بيان تلك الفاحشة تأكيداً للإنكار السابق وتشديداً للتوبيخ بقوله سبحانه:

.تفسير الآية رقم (81):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} [81].
{إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ} أي: الذين خلقهم الله ليأتوا النساء، لا ليأتيهم الرجال. وقرئ بهمزتين صريحتين، وبتليين الثانية، بغير مد وبمد أيضاً. وفي زيادة إن واللام مزيد توبيخ وتقريع، كأن ذلك أمر لا يتحقق صدوره عن أحد. وفي إيراد لفظ الرجال دون الغلمان والمردان ونحوهما، مبالغة في التوبيخ وتأتون، من أتى المرأة إذا غشيها. قاله الزمخشري.
وفي تاج العروس: أتى الفاحشة: تلبس بها، ويكنى بالإتيان عن الوطء وهو من أحسن الكنايات، ورجل مأتي أُتي فيه، ومنه قول بعض المولدين:
يأتي ويؤتى ليس ينكر ذا ** ولا هذا كذلك إبرة الخياط

انتهى.
وقوله تعالى: {شَهْوَةً} مفعول له، أي: للإشتهاء، أي: لا حامل لكم عليه إلا مجرد الشهوة من غير داع آخر، ولا ذم أعظم منه، لأنه وصف لهم بالبهيمية، وأنه لا داعي لهم من جهة العقل البتة كطلب النسل أو نحوه، أو حال بمعنى مشتهين تابعين للشهوة، غير ملتفتين إلى السماحة. كذا في الكشاف.
{مِّن دُونِ النِّسَاء} أي: مجاوزين عن مواتاه النساء اللاتي خلقن لذلك. قال أبو السعود: ويجوز أن يكون المراد من قوله: {شَهْوَةً} الإنكار عليهم، وتقريعهم على اشتهائهم تلك الفعلة الخبيثة المكروهة، كما ينبئ عنه قوله تعالى: {مِّن دُونِ النِّسَاء} أي: متجاوزين النساء اللاتي هن محال الإشتهاء كما ينبئ عنه قوله تعالى: {هُنَّ أَطْهَرُ لَكُم}.
{بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} إضراب عن الإنكار إلى الإخبار عنهم بالحال التي توجب ارتكاب القبائح، وتدعوا إلى اتباع الشهوات.
وهو أنهم قوم عادتهم الإسراف، وتجاوز الحدود في كل شيء، فمن ثَمَّ أسرفوا في باب قضاء الشهوة، حتى تجاوزوا المعتاد إلى غير المعتاد. ونحوه: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ}. كذا في الكشاف.

.تفسير الآية رقم (82):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [82].
{وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} أي: المستكبرين في مقابلة نصحه.
{إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم} أي: لوطاً والمؤمنين معه {مِّن قَرْيَتِكُمْ} أي: بلدكم.
قال الزمخشري: يعني ما أجابوه بما يكون جواباً عما كلمهم به لوط عليه السلام من إنكار الفاحشة، وتعظيم أمرها، ووسمهم بسمة الإسراف الذي هو أصل الشر كله، ولكنهم جاءوا بشيء آخر لا يتعلق بكلامه ونصيحته، من الأمر بإخراجه ومن معه من المؤمنين من قريتهم، ضجراً بهم، وبما يسمعونه من وعظهم ونصحهم.
وقولهم: {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} سخرية بهم، وبتطهرهم من الفواحش، وافتخار بما كانوا فيه من القذارة، كما يقول الشطار من الفسقة لبعض الصلحاء إذا وعظهم: أبعدوا عنا هذا المتقشف وأريحونا من هذا المتزهد.
قال ابن كثير: قال يتطهرون من أدبار الرجال وأدبار النساء. وروي مثله عن ابن عباس.
قال السيوطي في الإكليل: فيستدل به على تحريم أدبار النساء، أي: بناء على أن تفسير الصحابي له حكم المرفوع.
ورجح ابن القيم أنه حكم الموقوف.
والمسألة تقدمت مستوفاة في قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُم} فتذكر.
تنبيه:
قال الإمام شمس الدين بن القيم رحمه الله في كتابه إغاثة اللهفان:
قد وسم الله سبحانه الشرك والزنى واللواطة بالنجاسة والخبث في كتابه، دون سائر الذنوب، وإن كان مشتملاً على ذلك، لكن الذي وقع في القرآن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}، وقوله تعالى في حق اللوطية: {وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ}، وقالت اللوطية: {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ}، فأقروا مع شركهم وكفرهم، أنهم هم الأخباث الأنجاس، وأن لوطاً وآله مطهرون من ذلك، باجتنابهم له.
وقال تعالى في حق الزناة: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَات}، وأما نجاسة الشرك فهي نوعان:
نجاسة مغلظة، ونجاسة مخففة. فالمغلظة: الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله عز وجل، فإن الله عز وجل لا يغفر أن يُشرك به، والمخففة: الشرك الأصغر، كيسير الرياء، والتصنع للمخلوقات والحَلِف به، وخوفه ورجائه.
ثم قال: ونجاسة الزنى واللواطة أغلظ من غيرها من النجاسات، من جهة أنها تفسد القلب، وتضعف توحيده جدًّا. ولهذا أحظى الناس بهذه النجاسة أكثرهم شركاً، فكلما كان الشرك في العبد أغلب، كانت هذه النجاسة والخبائث فيه أكثر، وكلما كان أعظم إخلاصاً، كان منها أبعد، كما قال تعالى عن يوسف الصديق عليه السلام: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} فإن عشق الصور المحرمة نوع تعبُّد لها بل هو من أعلى أنواع التعبد، ولاسيما إذا استولى على القلب، تمكن منه، صار تتّيماً، والتَّتَيِّمُ: التعبد، فيصير العاشق عابداً لمعشوقه، وكثيراً ما يغلب حبه وذكره والشوق إليه والسعي في مرضاته، وإيثار محابّه على حب الله وذكره، والسعي في مرضاته. بل كثيراً ما كم قلت العاشق يذهب ذلك بالكلية، ويصير متعلقاً بمعشوقة من الصور- كما هو مشاهد- فيصير المعشوق هو إلهه من دون الله عز وجل، يقدم رضاه وحبه على رضا الله وحبه، ويتقرب إليه ما لا يتقرب إلى الله وينفق في مرضاته ما لا ينفقه في مرضاة الله، ويتجنب سخطه، ما لا يتجنب من سخط الله تعالى، فيصير آثر عنده من ربه، حباً وخضوعاً وذلاً وسمعاً وطاعة.
ولهذا كان العشق والشرك متلازمين، وإنما حكى الله سبحانه العشق عن المشركين من قوم لوط وعن امرأة العزيز، وكانت إذ ذاك مشركة، فكلما قوي شرك العبد، بُلي بعشق الصور، وكلما قوي توحيده صرف ذلك عنه.
الزاني واللواطة، كمال لذته إنما يكون مع العشق، ولا يخلو صاحبهما منه، وإنما لتنقله من محل إلى محل، لا يبقى عشقه مقصوراً على محل واحد، ينقسم على سهام كثيرة، لكل محبوب نصيب من تألهه وتعبده فليس في الذنوب أفسد للقلب والدين من هاتين الفاحشتين، ولهما خاصية في تبعيد القلب من الله، فإنهما من أعظم الخبائث، فإذا انصبغ القلب بهما بَعُدَ ممن هو طيب، لا يصعد إليه إلا طيب، وكلما ازداد خبثاً، ازداد من الله بعداً.
ولهذا قال المسيح، فيما رواه الإمام أحمد، في كتاب الزهد: لا يكون البطالون من الحكماء، ولا يلج الزناة ملكوت السماء. ولما كانت هذه حال الزنى، كان قريناً للشرك في كتاب الله تعالى قال الله تعالى: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}.
ثم قال رحمه الله: والمقصود أن الله سبحانه وتعالى سمى الزواني والزناة خبيثين وخبيثات، وجنس هذا الفعل قد شرعت فيه الطهارة، وإن كان حلالاً، وسمى فاعله جنباً، لبعده عن قراءة القرآن، وعن الصلاة، وعن المساجد، فمنع من ذلك كله حتى يتطهر بالماء.
فكذلك إذا كان حراماً، يبعد القلب عن الله تعالى، وعن الدار الآخرة، بل يحول بينه وبين الإيمان، حتى يحدث طهراً كاملاً بالتوبة، وطهراً لبدنه بالماء.
وقول اللوطية: {أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} من جنس قوله سبحانه في أصحاب الأخدود: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}، وقوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْل}، وهكذا المشرك، إنما ينقم على السنيّ تجريده متابعة الرسول، وأنه لم يَشُبْها بآراء الرجال، ولا بشيء مما خالفها.
فصبر الموحد المتبع للرسول على ما ينقمه عليه أهل الشرك والبدعة، خير له وأنفع، وأسهل عليه من صبره على ما ينقمه الله ورسوله من موافقة أهل الشرك والبدعة:
إذا لم يكن بدّ من الصبر فاصطبر ** على الحق ذاك الصبرُ تُحْمَدُ عُقْبَاهُ

انتهى.
ولما همّ قوم لوط بإخراجه ونفيه ومن معه من بين أظهرهم، أخرجه الله تعالى سالماً، وأهلكهم في أرضهم صاغرين مهانين، كما أشار لذلك بقوله سبحانه:

.تفسير الآية رقم (83):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [83].
{فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ} أي: ومن يختص به من ذويه، أو من المؤمنين لطيبهم. قال ابن كثير: ولم يؤمن به أحد منهم سوى أهل بيته فقط، كما قال تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}.
{إِلاَّ امْرَأَتَهُ} أي: فإنا لم ننجها لخبثها.
قال ابن كثير: إنها لم تؤمن به، بل كانت على دين قومها، تمالئهم عليه وتُعلِمهُمْ بمن يقدم عليه من ضيفانه بإشارات بينها وبينهم.
ولهذا لما أُمر لوط عليه السلام ليسري بأهله، أُمر أن لا يُعلمها ولا يخرجها من البلد. ومنهم من يقول بل اتبعتهم، فلما جاء العذاب التفتت هي، فأصابها ما أصابهم.
الأظهر أنها لم تخرج من البلد، ولا أعلمها لوط، بل بقيت معهم، ولهذا قال ههنا: {إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} أي: من الذين غبروا في ديارهم، أي: بقوا فهلكوا.
وقيل: من الهالكين وهو تفسير باللازم، التذكير للتغليب، ولبيان استحقاقها لما يستحقه المباشرون للفاحشة.

.تفسير الآية رقم (84):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} [84].
{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً} أي: وأرسلنا عليهم نوعاً من المطر عجيباً غير متعارف، وهو مبين بقوله تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ}، أي: طين متحجر.
قال المهايمي: ولكفرهم بمطر الشرائع المحيي بإبقاء النسل وغيره، انقلب عليهم في صورة العقاب.
وقرأت في التوراة المعربة، أن الملكين اللذين جاءا لوطاً عليه السلام، يخبرانه ويبشرانه بهلاك قومه، قالا له: أخرج من هذا الموضع من لك هاهنا من أصهارك وبنيك وبناتك وجميع من لك، فإنا بعَثَنَا الرب لنهلك هذه المدينة.
ولما كان عند طلوع الفجر ألح الملكان على لوط بأخذ امرأته وابنتيه، ثم أمسكا بأيديهم جميعاً وصيراهم خارج المدينة وقالا: لا يلتفت أحد منك إلى ورائه، وتخلصا إلى الجبل.
ولما أشرقت أمطر الرب من السماء على سدوم وعمورة كبريتاً وناراً، وقلب تلك المدن، وكل البقعة وجميع سكان المدن ونَبْتَ الأرض، والتفتت امرأته إلى ورائها صارت نُصُبَ مِلْح، وقدم إبراهيم غدوة من أرضه، فتطلع إلى جهة سدوم وعمورة، فإذا دخان الأرض صاعد كدخان الأتُون. انتهى.
وقرأت في نبوة حَزْقيال عليه السلام، في الفصل السادس عشر: في بيان إثم سدوم ما نصه:
إن الإستكبار والشبع من الخبز، وطمأنينه الفراغ، كانت في سدوم وتوابعها، ولم تعضد يد البائس والمسكين، وتشامخن وصنعن الرجس أمامي، فنزعتهن كما رأيت. انتهى.
وقد صار موضع تلك المدن بحر ماء أجاج، لم يزل إلى يومنا هذا، ويعرف بالبحر الميت، أو بحيرة لوط، والأرض التي تليها قاحلة لا تنبت شيئاً.
قال في مرشد الطالبين: بحر لوط، هو بحر سدوم، ويدعى أيضاً البحر الميت، وهو بركة مالحة في فلسطين، طولها خمسون ميلاً، وعرضها عشرة أميال، وهي أوطأ من بحر الروم بنحو 1250 قدماً، وموقعها في الموضع الذي كانت عليه سدوم وعمورة وأدمة وصبوييم. انتهى.
وقوله: {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} أي: هؤلاء أجرموا بالكفر وعمل الفواحش، كيف أهلكناهم.
والنظر تعجيباً من حالهم، وتحذيراً من أعمالهم، فإن من تستولي عليه رذيلة الدعارة، تكبحه عن التوفيق نفساً وجسداً، وتورده موارد الهلكة والبوار، جزاء ما جنى لهم اتباع الأهواء.
تنبيه في حد اللوطي:
اعلم أنه وردت السنة بقتل من لاط بذكر، ولو كان بكراً، كذلك المفعول به إذا كان مختاراً، لحديث ابن عباس، عند أحمد وأبي داود وابن ماجة والترمذي والحاكم والبيهقي، قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من وجدتموه يعمل عمل قو لوط، فاقتلوا الفاعل والمفعول به».
قال ابن حجر: رجاله موثقون، إلا أن فيه اختلافاً.
وأخرج ابن ماجة والحاكم من حديث أبي هريرة مرفوعاً: «اقتلوا الفاعل والمفعول به أحصنا أو لم يحصنا»- وإسناده ضعيف-.
قال ابن الطلاع في أحكامه: لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رجم في اللواط، ولا أنه حكم فيه. وثبت عنه أنه قال: اقتلوا الفاعل والمفعول به- رواه عنه ابن عباس وأبو هريرة- انتهى.
وأخرج البيهقي عن علي أنه رجم لوطياً.
وأخرج البيهقي أيضاً عن أبي بكر، أنه جمع الناس في حق رجل ينكح كما تنكح النساء، فسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فكان من أشدهم يومئذ قولاً، علي بن أبي طالب قال: هذا ذنب لم تعص به أمة من الأمم إلا أمة واحدة، صنع الله بها ما قد علمتم، نرى أن نحرقه بالنار، فاجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يحرقه بالنار، فكتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد أن يحرقه بالنار.
وأخرج أبو داود عن سعيد بن جبير ومجاهد، عن ابن عباس: في البكر يؤخذ على اللوطية، يرجم.
وأخرج البيهقي عن ابن عباس أيضاً، أنه سئل عن حد اللوطي فقال: ينظر أعلى بناء في القرية فيرمى به منكساً، ثم يتبع بالحجارة.
وقال المنذري: حرق اللوطية بالنار أبو بكر وعلي، وعبد الله بن الزبير وهشام بن عبد الملك.
وبالجملة: فلما ثبت أن حده القتل بقي الإجتهاد في هيئته حرقاً أو تردية أو غيرهما.
وقال بعض المحققين: إن كان اللواط مما يصح اندراجه تحت عموم أدلة الزنى فهو مخصص بما ورد فيه من القتل لكل فاعل، محصناً أو غيره، وإن كان غير داخل تحت أدلة الزنى، ففي أدلته الخاصة له ما يشفي ويكفي. انتهى.
وقال الإمام الجشمي اليمني: لو كان في اللواط حد معلوم لما خفي على الصحابة، حتى شاورهم في ذلك أبو بكر رضي الله عنه، لما كتب إليه خالد بن الوليد.
وقال الإمام ابن القيم في زاد المعاد: لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قضى في اللواط بشيء، لأن هذا لم تكن تعرفه العرب، ولم يرفع إليه صلى الله عليه وسلم، ولكن ثبت عنه أنه قال: اقتلوا الفاعل والمفعول به- رواه أهل السنن الأربعة وإسناده صحيح- وقال الترمذي: حديث حسن، وحكم به أبو بكر الصديق، وكتب به إلى خالد، بعد مشاورة الصحابة، وكان علي كرم الله وجهه أشدهم في ذلك.
وقال ابن القصار وشيخنا: أجمعت الصحابة على قتله، وإنما اختلفوا في كيفية قتله، فقال أبو بكر الصديق: يرمى من شاهق، وقال علي كرم الله وجه: يهدم عليه حائط، وقال ابن عباس: يقتلان بالحجارة. فهذا اتفاق منهم على قتله، وإن اختلفوا في كيفيته.
وهذا موافق لحكمه صلى الله عليه وسلم فيمن وطئ ذات محرم، لأن الوطء في الموضعين لا يباح للواطئ بحال. ولهذا جمع بينهما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما، فإنه روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوه».
وروي أيضاً عنه: من وقع على ذات رحم فاقتلوه. وفي حديثه أيضاً بالإسناد: «من أتى بهيمة فاقتلوه معه».
وهذا الحكم على وفق حكم الشارع، فإن المحرمات كلما تغلظت، تغلظت عقوبتها، ووطء من لا يباح بحال أعظم جرماً من وطء من يباح في بعض الأحوال، فكون حده أغلظ.
وقد نص أحمد في إحدى الروايتين عنه، أن حكم من أتى بهيمة حكم اللواط سواء، فيقتل بكل حال، أو يكون حده حد الزاني.
واختلف السلف في ذلك، فقال الحسن: حده حد الزاني.
وقال أبو سلمة: يقتل بكل حال. وقال الشعبي والنخعي: يعزّر، وبه أخذ الشافعي ومالك وأبو حنيفة وأحمد في رواية، فإن ابن عباس أفتى بذلك، وهو راوي الحديث. انتهى.
وقد طعن الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث الهداية في دعوى إجماع الصحابة على قتل اللوطي في رواية البيهقي: أن أبا بكر جمع الصحابة فسألهم، فكان أشدهم في ذلك قولاً علي، فقال: نرى أن نحرقه بالنار، فاجتمع رأيهم على ذلك. قال ابن حجر: قلت: وهو ضعيف جدًّا، ولو صح لكان قاطعاً للحجة. انتهى.
وجليٌّ أن عقوبات القتل أعظم الحدود، فلا يؤخذ فيها إلا بالقواطع من كتاب أو سنة متواترة، أو إجماع أو حديث صحيح السند والمتن، قطعي الدلالة.
ولذا كان على الحاكم بذل جهده في ذلك استبراءاً لدينه- والله أعلم-.